فصل: قال الماوردي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



المسألة الثَّالِثَةُ:
رَوَى أَبُو ذَرٍّ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «أَنَّهُ قال لَهُ: أَيُّ الْمَسْجِدِ وُضِعَ فِي الأرض الْأَوَّلَ؟ قال: الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ.قُلْت: ثُمَّ أَيُّ؟ قال: الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى.قُلْت: كَمْ كَانَ بَيْنَهُمَا؟ قال: أَرْبَعُونَ سَنَةً.ثُمَّ أَيْنَمَا أَدْرَكَتْك الصَّلَاةُ فَصَلِّ». كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ هَاهُنَا وَفِي غَيْرِ مَوْضِعٍ.
المسألة الرَّابِعَةُ:
قوله تعالى: {وَطَهِّرْ بَيْتِي} يَعْنِي لَا تَقْرَبْهُ بِمَعْصِيَةٍ وَلَا نَجَاسَةٍ وَلَا قَذَارَةٍ، وَكَانَ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى شَاءَ اللَّهُ فَعُبِدَ فِيهِ غَيْرُهُ، وَأُشْرِكَ فِيهِ بِهِ، وَلُطِّخَ بِالدِّمَاءِ النَّجِسَةِ، وَمُلِئَ مِنْ الْأَقْذَارِ الْمُنْتِنَةِ.
قوله تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوك رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} فِيهَا سَبْعُ مَسَائِلَ:
المسألة الأولى:
قوله تعالى: {وَأَذِّنْ} تَقَدَّمَ بَيَانُ {أَذِّنْ} فِي سُورَةِ بَرَاءَةٍ، وَأَوْضَحْنَا أَنَّ مَعْنَاهُ أَعْلِمْ، وَأَنَّ اللَّهَ أَمَرَ نَبِيَّهُ إبراهيم أَنْ يُنَادِيَ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ، وَذَلِكَ نَصُّ القران.
وَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ النِّدَاءِ كَيْف وَقَعَتْ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أُمِرَ بِهِ فِي جُمْلَةِ شَرَائِعِ الدِّينِ، الصَّلَاةُ، وَالزَّكَاةُ، وَالصِّيَامُ، وَالْحَجُّ، حَسْبَمَا تَمَهَّدَتْ بِهِ مِلَّةُ الْإِسْلَامِ الَّتِي أَسَّسَهَا لِسَانُهُ، وَأَوْضَحَهَا بِبَيَانِهِ، وَخَتَمَهَا مُبَلَّغَةً تَامَّةً بِمُحَمَّدٍ فِي زَمَانِهِ.
الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ أَنْ يَرْقَى عَلَى أَبِي قُبَيْسٍ وَيُنَادِي: أَيُّهَا النَّاسُ، إنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْكُمْ الْحَجَّ فَحُجُّوا، فَلَمْ تَبْقَ نَفْسٌ إلَّا أَبْلَغَ اللَّهُ نِدَاءَ إبراهيم إلَيْهَا، فَمَنْ لَبَّى حِينَئِذٍ حَجَّ، وَمَنْ سَكَتَ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهِ نَصِيبٌ، وَرَبُّنَا عَلَى ذَلِكَ مُقْتَدِرٌ، فَإِنْ صَحَّ بِهِ الْأَثَرُ اسْتَمَرَّ عَقِيدَةً وَاسْتَقَرَّ، وَإِلَّا فَالْأَوَّلُ يَكْفِي فِي الْمَعْنَى.
المسألة الثَّانِيَةُ:
قوله: {يَأْتُوك رِجَالًا} قال أَكْثَرُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ: لَا يُفْتَرَضُ الْحَجُّ عَلَى مَنْ لَيْسَ لَهُ زَادٌ وَلَا رَاحِلَةٌ، وَهِيَ الِاسْتِطَاعَةُ، حَسْبَمَا تُفَسَّرُ فِي حديث الْجَوْزِيِّ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ كُلَّهُ فِي سُورَةِ آلِ عُمْرَانِ، فَلَا وَجْهَ لِإِعَادَتِهِ، بَيْدَ أَنَّ هَذِهِ الآية نَصٌّ فِي أَنَّ حَالَ الْحَاجِّ فِي فَرْضِ الْإِجَابَةِ مُنْقَسِمَةٌ إلَى رَاجِلٍ وَرَاكِبٍ، وَلَيْسَ عَنْ هذا لِأَحَدٍ مَذْهَبٌ، وَلَا بَعْدَهُ فِي الدَّلِيلِ مَطْلَبٌ، حَسْبَمَا هي عَلَيْهِ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْمَذْهَبِ، فَإِنَّ الِاسْتِطَاعَةَ عِنْدَنَا صِفَةُ الْمُسْتَطِيعِ، وَهِيَ قَائِمَةٌ بِبَدَنِهِ، فَإِذَا قَدَرَ يَمْشِي وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْعِبَادَةُ، وَإِذَا عَجَزَ وَوَجَدَ الزَّادَ وَالرَّاحِلَةَ وَجَبَتْ عَلَيْهِ أَيْضًا، وَتَحَقَّقَ الْوَعْدُ بِالْوَجْهَيْنِ.
المسألة الثَّالِثَةُ:
قوله: {وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ} يَعْنِي الَّتِي انْضَمَّ جَنْبَاهَا مِنْ الْهُزَالِ حَتَّى أَكَلَتْهَا الْفَيَافِي، وَرَعَتْهَا الْمَفَازَاتُ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ مِنْهَا أَوَانَ انْفِصَالِهِ مِنْ بَلَدِهِ عَلَى بَدَنٍ، فَإِنَّ حَرْبَ الْبَيْدَاءِ وَمُعَالَجَةَ الأعداء رَدَّهَا هلالًا، فَوَصَفَهَا اللَّهُ بِالْمَالِ الَّذِي انْتَهَتْ عَلَيْهِ إلَى مَكَّةَ.
المسألة الرَّابِعَةُ:
قوله: {يَأْتِينَ} رَدَّ الضَّمِيرَ إلَى الْإِبِلِ تَكْرِمَةً لَهَا؛ لِقَصْدِهَا الْحَجَّ مَعَ أَرْبَابِهَا، كَمَا قال تعالى: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا} فِي خَيْلِ الْجِهَادِ تَكْرِمَةً لَهَا حِينَ سَعَتْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
المسألة الْخَامِسَةُ:
قوله: {عَمِيقٍ} يَعْنِي بَعِيدٌ، وَبِنَاءُ عَمُقَ لِلْبُعْدِ قال الشَّاعِرُ يَصِفُ قَفْرًا:
وَقَاتِمُ الْأَعْمَاقِ خَاوِي الْمُحْتَرَقِ

يُرِيدُ بِالْأَعْمَاقِ الْأَبْعَادَ تَرَى عَلَيْهَا قَتامًّا يُخْتَرَقُ مِنْهَا جَوًّا خَاوِيًّا، وَتَمْشِي فِيهِ كَأَنَّك وَإِنْ كُنْت مُصْعِدًا هاوٍ، وَلِذَلِكَ يُقال بِئْرٌ عَمِيقَةٌ، أَيْ بَعِيدَةُ الْقَعْرِ.
المسألة السَّادِسَةُ:
رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حَجَّ قَبْلَ الْهِجْرَةِ حَجَّتَيْنِ، وَحَجَّ حَجَّةَ الْوَدَاعِ ثَالِثَةً»، وَظَنَّ قَوْمٌ أَنَّ حَجَّهُ كَانَ عَلَى دِينِ إبراهيم وَدَعْوَتِهِ، وَإِنَّمَا حَجَّ عَلَى دِينِهِ وَمِلَّتِهِ تَنَفُّلًا بِالْعِبَادَةِ، وَاسْتِكْثَارًا مِنْ الطَّاعَةِ، فَلَمَا جَاءَهُ فَرْضُ الْحَجِّ بَعْدَ تَمَلُّكِهِ لِمَكَّةَ وَارْتِفَاعِ الْعَوَائِقِ، وَتَطْهِيرِ الْبَيْتِ، وَتَقْدِيسِ الْحَرَمِ، قَدَّمَ أَبَا بَكْرٍ لِيُقِيمَ لِلنَّاسِ حَجَّهُمْ، ثُمَّ أَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِي الْعَامِ الثَّانِي، وَقَدْ قَدَّمْنَا وَجْهَ تَأْخِيرِهِ إلَى حَجَّةِ الْوَدَاعِ مِنْ قَبْلُ.
المسألة السابعة:
قال عُلَمَاؤُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ: لَمَا قَدَّمَ اللَّهُ تعالى ذِكْرَهُ رِجَالًا عَلَى كُلِّ ضَامِرٍ دَلَّ عَلَى أَنَّ حَجَّ الرَّاجِلِ أَفْضَلُ مِنْ حَجِّ الرَّاكِبِ.
وَقَدْ قال ابْنُ عَبَّاسٍ: إنَّهَا لَحَوْجَاءُ فِي نَفْسِي أَنْ أَمُوتَ قَبْلَ أَنْ أَحُجَّ مَاشيا، لِأَنِّي سَمِعْت اللَّهَ يقول: {يَأْتُوك رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} فَبَدَأَ بِأَهْلِ الرِّجْلَةِ.
وَقَدْ جَاءَ فِي الْأَخْبَارِ أَنَّ إبراهيم وَعِيسَى حَجَّا مَاشِيَيْنِ، وَإِنَّمَا «حَجَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَاكِبًا وَلَمْ يَحُجَّ مَاشيا»؛ لِأَنَّهُ إنْ اقْتَدَى بِهِ أَهْلُ مِلَّتِهِ لَمْ يَقْدِرُوا، وَإِنْ قَصَّرُوا عَنْهُ تَحَسَّرُوا، وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفًا رَحِيمًا. وَلَعَمْرُ اللَّهِ لَقَدْ طَافَ رَاكِبًا لِيَرَى النَّاسُ هَيْئَةَ الطَّوَافِ.
قوله تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا البائس الْفَقِيرَ} فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ:
المسألة الأولى:
هَذِهِ لَامُ الْمَقْصُودِ وَالْفَائِدَةُ الَّتِي يَنْسَاقُ الْحديث لَهَا وَتُنَسَّقُ عَلَيْهِ، وَأَجَلُّهَا قوله: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا}.
وَقَدْ تَتَّصِلُ بِالْفِعْلِ، كَمَا قَدَّمْنَاهُ؛ وَتَتَّصِلُ بِالْحَرْفِ، كقوله: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ}.
وَقَدْ حَقَّقْنَا مَوْرِدَهَا فِي مَلْجَئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ إلَى مَعْرِفَةِ غَوَامِضِ النَّحْوِيِّينَ.
المسألة الثَّانِيَةُ:
قوله: {مَنَافِعَ} فِيهَا أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: الْمَنَاسِكُ.
الثَّانِي: الْمَغْفِرَةُ.
الثَّالِثُ: التِّجَارَةُ.
الرَّابِعُ: مِنْ الْأَمْوَالِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ.
وَذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ نُسُكٍ وَتِجَارَةٍ وَمَغْفِرَةٍ وَمَنْفَعَةٍ دُنْيَا وَآخِرَةٌ.
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ عُمُومُ قَوْلِ: {مَنَافِعَ} فَكُلُّ ذَلِكَ يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ هذا الْقَوْلُ، وَهذا يُعَضِّدُهُ مَا فِي الْبَقَرَةِ فِي تَفْسِيرِ قوله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} وَذَلِكَ هُوَ التِّجَارَةُ بِإِجْمَاعٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ.
المسألة الثَّالِثَةُ:
قوله: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ} فِيهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا عَشْرُ ذِي الْحِجَّةِ.
الثَّانِي: أَنَّهَا أَيَّامُ التَّشْرِيقِ.
وَبِالْأَوَّلِ يقول الشَّافِعِيُّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْمَعْلُوماتِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ بِمَا يُغْنِي عَنْ إعَادَتِهِ هَاهُنَا.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ: الْأَيَّامُ الْمَعْلُوماتُ أَيَّامُ النَّحْرِ؛ يَوْمُ النَّحْرِ وَيَومانِ بَعْدَهُ.
وَقال: هُوَ النَّهَارُ دُونَ اللَّيْلِ.
وَمِثْلَهُ رَوَى أَشْهَبُ وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ عَنْ مَالِكٍ، وَثَبَتَ يَقِينًا أَنَّ الْمُرَادَ بِذَكَرِ اسْمِ اللَّهِ هَاهُنَا الَكِنايَةُ عَنْ النَّحْرِ؛ لِأَنَّهُ شَرْطُهُ.
المسألة الرَّابِعَةُ:
قوله: {فَكُلُوا} قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْأَكْلِ مِنْ لَحْمِ الصَّيْدِ، وَجَرَى فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذِكْرِ الْهَدْيِ، وَحَقِيقَتُهُ تَأْتِي بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ.
المسألة الْخَامِسَةُ:
{وَأَطْعِمُوا البائس الْفَقِيرَ}: فَأَمَا الْفَقِيرُ فَهُوَ الَّذِي لَا شَيْءَ لَهُ عَلَى نَعْتِ مَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٍ.
وَأَمَا البائس فَهُوَ الَّذِي ظَهَرَ عَلَيْهِ الْبُؤْسُ، وَهُوَ ضَرَرُ الْمَرَضِ أَوْ ضَرَرُ الْحَاجَةِ.
قوله تعالى: {ثُمَّ لِيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ:
المسألة الأولى:
فِي ذِكْرِ التَّفَثِ: قال الْقَاضِي الْإِمَامُ: هَذِهِ لَفْظَةٌ غَرِيبَةٌ عَرَبِيَّةٌ لَمْ يَجِدْ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ فِيهَا شِعْرًا، وَلَا أَحَاطُوا بِهَا خَبَرًا، وَتَكَلَّمَ السَّلَفُ عَلَيْهَا عَلَى خَمْسَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: قال ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ: التَّفَثُ حَلْقُ الشَّعْرِ، وَلُبْسُ الثِّيَابِ، وما أَتْبَعَ ذَلِكَ مِمَا يَحِلُّ بِهِ الْمُحْرِمُ.
الثَّانِي: أَنَّهُ مَنَاسِكُ الْحَجِّ؛ رَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ.
الثَّالِثُ: حَلْقُ الرَّأْسِ قالهُ قَتَادَةُ.
الرَّابِعُ: رَمْيُ الْجِمَارِ قالهُ مُجَاهِدٌ.
الْخَامِسُ: إزَالَةُ قَشَفِ الْإِحْرَامِ، مِنْ تَقْلِيمِ أَظْفَارٍ، وَأَخْذِ شَعْرٍ، وَغُسْلٍ، وَاسْتِعْمَالِ طِيبٍ قالهُ الْحَسَنُ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ الْأَوَّلُ.
فَأَمَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ فَلَوْ صَحَّ عَنْهُمَا لَكَانَ حُجَّةً، لِشَرَفِ الصُّحْبَةِ وَالْإِحَاطَةِ بِاللُّغَةِ.
وَأَمَا قَوْلُ قَتَادَةَ إنَّهُ حَلْقُ الرَّأْسِ فَمِنْ قَوْلِ مَالِكٍ.
وَأَمَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ إنَّهُ رَمْيُ الْجِمَارِ فَمِنْ قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ، ثُمَّ تَتَبَّعْت التَّفَثَ لُغَةً فَرَأَيْت أَبَا عُبَيْدَةَ مَعْمَرَ بْنَ الْمُثَنَّى قَدْ قال: إنَّهُ قَصُّ الْأَظْفَارِ، وَأَخْذُ الشَّارِبِ، وَكُلُّ مَا يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ، إلَّا النِّكَاحُ، وَلَمْ يَجِئ فِيهِ بِشِعْرٍ يُحْتَجُّ بِهِ.
وَقال صَاحِبُ الْعَيْنِ: التَّفَثُ هُوَ الرَّمْيُ، وَالْحَلْقُ، وَالتَّقْصِيرُ، وَالذَّبْحُ، وَقَصُّ الْأَظْفَارِ وَالشَّارِبِ، وَنَتْفُ الْإِبْطِ.
وَذَكَرَ الزَّجَّاجُ وَالْفَرَّاءُ نَحْوَهُ، وَلَا أُرَاهُ أَخَذَهُ إلَّا مِنْ قَوْلِ الْعُلَمَاءِ.
وَقال قُطْرُبٌ: تَفِثَ الرَّجُلُ إذَا كَثُرَ وَسَخُهُ، وَقال أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ: حَفُّوا رُءُوسَهُمْ لَمْ يَحْلِقُوا تَفَثًا وَلَمْ يَسُلُّوا لَهُمْ قَمْلًا وَصِئْبَانًا وَإِذَا انْتَهَيْتُمْ إلَى هذا الْمَقَامِ ظَهَرَ لَكُمْ أَنَّ مَا ذُكِرَ أَشَارَ إلَيْهِ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ، وما ذَكَرَهُ قُطْرُبٌ هُوَ الَّذِي قالهُ مَالِكٌ؛ وَهُوَ الصَّحِيحُ فِي التَّفَثِ، وَهَذِهِ صُورَةُ قَضَاءِ التَّفَثِ لُغَةً.
وَأَمَا حَقِيقَتُهُ الشَّرْعِيَّةُ فَإِذَا نَحَرَ الْحَاجُّ أَوْ الْمُعْتَمِرُ هَدْيَهُ، وَحَلَقَ رَأْسَهُ، وَأَزَالَ وَسَخَهُ، وَتَطَهَّرَ وَتَنَقَّى، وَلَبِسَ الثِّيَابَ، فَيَقْضِي تَفَثَهُ وَأَمَا وَفَاءُ نَذْرِهِ، وَهِيَ:
المسألة الثَّانِيَةُ:
فَإِنَّ النَّذْرَ كُلُّ مَا لَزِمَ الإنسان أَوْ الْتَزَمَهُ.
وَقال مَالِكٌ فِي رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ وَابْنِ الْقَاسِمِ وَابْنِ بُكَيْر: إنَّهُ رَمْيُ الْجِمَارِ؛ لِأَنَّ النَّذْرَ هُوَ الْعَقْلُ، فَهُوَ رَمْيُ الْجِمَارِ، لِأَجَلِ النَّذْرِ يَعْنِي بِالْعَقْلِ الدِّيَةَ.
وَالْأَوَّلُ أَقْوَى: لِأَنَّهُ يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِرَمْيِ الْجِمَارِ، وَبِنَحْرِ الْهَدْيِ، وَيَجْتَنِبُ الْوَطْءَ وَالطِّيبَ، حَتَّى تَقَعَ الزِّيَارَةُ.
المسألة الثَّالِثَةُ:
قوله: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} هذا هو طَوَافُ الزِّيَارَةِ، وَهُوَ طَوَافُ الْإِفَاضَةِ، وَهُوَ رُكْنُ الْحَجِّ بِاتِّفَاقٍ، وَبِهِ يَتِمُّ الْحَجُّ؛ لِأَنَّهُ أَحَدُ أَعْمَالِهِ وَنِهَايَةُ أَرْكَانِهِ.
المسألة الرَّابِعَةُ:
قوله: {بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}: وَفِي تَسْمِيَتِهِ بِالْعَتِيقِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مِنْ عَتُقَ أَيْ قَدُمَ؛ إذْ هُوَ أَوَّلُ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الأرض.
الثَّانِي: أَنَّهُ عَتَقَ، أَيْ خَلُصَ مِنْ الْجَبَابِرَةِ عَنْ الْهَوَانِ إلَى انْقِضَاءِ الزَّمَانِ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله عز وجل: {وَإِذْ بَوَّأنَا لإبراهيم مَكَانَ الْبَيْتِ} فيه وجهان:
أحدهما: معناه وطأنا له مكان البيت، حكاه ابن عيسى.
والثاني: معناه عرفناه مكان البيت بعلامة يستدل بها.
وفي العلامة قولان:
أحدهما: قاله قطرب، بعثت سحابة فتطوقت حيال الكعبة فبنى على ظلها.
الثاني: قاله السدي، كانت العلامة ريحًا هبت وكنست حول البيت يقال لها الخجوج.
{أَن لاَّ تُشْرِكَ بِي شَيْئًا} أي لا تعبد معي إلهًا غيري. {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: من الشرك وعبادة الأوثان، وهذا قول قتادة.
الثاني: من الأنجاس والفرث والدم الذي كان طرح حول البيت، ذكره ابن عيسى.
والثالث: من قول الزور، وهو قول يحيى بن سلام.
{للطائفين والقائمين وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} أما الطائفون فيعني بالبيت وفي {الْقَائِمِينَ} قولان:
أحدهما: يعني القائمين في الصلاة، وهو قول عطاء.
والثاني: المقيمين بمكة، وهو قول قتادة.
{وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} يعني في الصلاة، وفي هذا دليل على ثواب الصلاة في البيت. وحكى الضحاك أن إبراهيم لما حضر أساس البيت وحد لَوْحًا، عليه مكتوب: أنا الله ذو بكّة، خلقت الخير والشر، فطوبى لمن قَدَّرْتُ على يديه الخير، وويلٌ لمن قدرت على يديه الشر.
وتأول بعض أصحاب الخواطر قوله: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ} يعني القلوب.
{للطائفين} يعني حجاج الله، {والقائمين} يعني الإِيمان، {وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} يعني الخوف والرجاء.
قوله عز وجل: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} يعني أَعْلِمْهُم ونَادِ فيهم بالحق، وفيه قولان:
أحدهما: أن هذا القول حكاية عن أمر الله سبحانه لنبيه إبراهيم، فروي أن إبراهيم صعد جبل أبي قبيس فقال: عباد الله إن الله سبحانه وتعالى قد ابتنى بيتًا وأمَرَكُمْ بحجه فَحُجُّوا، فأجابه من في أصلاب الرجال وأرحام النساء: لبيك داعي ربنا لبيك. ولا يحجه إلى يوم القيامة إلا من أجاب دعوة إبراهيم، وقيل إن أول من أجابه أهل اليمن، فهم أكثر الناس حجًا له.
والثاني: أن هذا أمر من الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم أن يأمر الناس بحج البيت.
{يَأْتُوكَ رِجَالًا} يعني مشاة على أقدامهم، والرجال جمع راجل. {وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} أي جملٍ ضامر، وهو المهزول، وإنما قال: {ضَامِرٍ} لأنه ليس يصل إليه إلا وقد صار ضامرًا.
{يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} أي بعيد، ومنه قول الشاعر:
تلعب لديهن بالحريق ** مدى نياط بارح عميق

قوله عز وجل: {لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} فيه ثلاثة تأويلات:
أحدها: أنه شهود المواقف وقضاء المناسك.
والثاني: أنها المغفرة لذنوبهم، قاله الضحاك.
والثالث: أنها التجارة في الدنيا والأجر في الآخرة، وهذا قول مجاهد.
{وَيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامِ مَّعْلُوماتٍ} فيها ثلاثة أقاويل:
أحدها: أنها عشر ذي الحجة آخرها يوم النحر، وهذا قول ابن عباس، والحسن، وهو مذهب الشافعي.